بسم الله الرحمن الرحيم .
ثلاثة أحداث جعلت إيران قلعة الاحرار و المستضعفين في العالم .
الذي يتصفح التاريخ ، لاسيما السياسي منه ، خلال القرن العشرين الذي مضى بما فيه ، و يتتبع ما حوته أوراقه و صفحاته الخاصة بأواخر القرن المنصرم ، لابد منه بل و لا محالة ، ان يقف على أحداث غيّرت الشرق الأوسط ، و تسمّرت عندها أعين العالمين ، غير مصدّقة بما جاءت به و أثمرت عنه ! ذلك ، لأن العالم لم يعتد و خلال قرون ، أي ، منذ اندلاع الثورة الحسينية العظيمة عام ٦١ للهجرة و لحد الآن ، لم يعتد على هكذا أحداث !
قال عنها البعض أنها فقاعات تطفو على السطح كغيرها و لا تترك أثرا أو حتى انطباعا نفسيا ! و فسّرها آخرون بأنها (زوبعة في فنجان ) لا تغني و لا تسمن من جوع ! و انبهرت جماعات متناثرة هنا و هناك في أنحاء العالم بها ، لكنهم عزوا ذلك إلى عدم قدرة من ارتبط بها عن قريب أو بعيد ، على تغيير شيئ ما ! و حصون الامبريالية العالمية و الاستكبار العالمي على اشدها ، في القوة و الردع و البطش ! فهل ، يا ترى ، يعقل ان ترتبط كلها بشخص واحد فقط ؟ و تتكالب عليه (الذئاب المفترسة) من كل حدب و صوب ، و هو لا يبالي ، كالجبل الشامخ ، لا تهزه الرياح مهما كانت و من أية جهت هبت . نحن ، اليوم ، على أعتاب الثالث عشر من آبان ، الثامن من السنة الهجرية الشمسية . فقد حمل ذلك اليوم العظيم ، ثلاثة أحداث ، لم تجعل إيران فقط ، محطة أنظار العالم ، بل و كل ملامح اصقاع المعمورة تحوّلت إلى شاهد على ذلك ، و لا زالت . الحدث الأول ، نفي سماحة الإمام الخميني (قده) إلى تركية ، بعد تصديه لنظام الشاه ، الاستبدادي ، الفاشي و إسقاط القناع الذي يختفي وراءه ، لتنكشف و تظهر الحقيقة كما هي للعيان . الشئ الملفات للنظر في هذا اليوم ، الذي وافق الأربعاء ، 4 تشرين الأول 1964 ، هو الجرأة و الحزم و الصمود النادر ، أمام أجهزة الشاه القمعية ، الدموية ، و خاصة جهاز (الساواك) المشهور ببطشه و قسوته و إجرامه ، فما من احد وقف أمامه الاّ و انتهت حياته بطريقة ما ، لكنّ الامام (قده) و بتوكله على الله تعالى ، الذي اشتهر به ، لم يعر لذلك أهمية تُذكر ، لأن الهدف ، هدف سام و رفيع ، يُرخص في سبيله كل نفيس و ثمين مهما كان ، و سماحته كان مستعدا لذلك ، فكيف الصبر و الصمت ، و هو حفيد سيد الشهداء عليه السلام ، مفجر و قائد ثورة كربلاء الفذ ؟ في الوقت الذي لفّ الخذل و الخنوع ، غالبية المدّعين بالدفاع عن الإسلام و الشريعة ؟ . فقد أوصى البعض منهم الإمام (قده) بعدم مقارعة نظام الشاه و اتخاذ سبيل الإمام الحسن عليه السلام ، في الصلح و السلام ! متناسين أن كل ما يصيب الإنسان ، أو يتعرض له ، بإذن الله تعالى ، مهما صغر أو عظم . قال عز و جل : " ما أصاب من مصيبة الاّ بإذن الله و من يؤمن بالله يهد قلبه و الله بكل شيئ عليم " (1). في تركية ، وُضع سماحته تحت مراقبة شديدة ، بتعاون أجهزة الأمن الإيرانية و التركية . فهل أفادهم ذلك ؟ و هل تنفس نظام الشاه الصعداء ؟ ... كلاّ ! فما جرى عقب ذلك ادهى و أعظم ! ... و توالت السنون ، الواحدة بعد الأخرى ، و عاد الثالث عشر من آبان ثانية ، دمويا ، ملطخا بدماء التلاميذ ، و هم في عنفوان الشباب ، و ريعان الفتوة ، حيث قامت أجهزة القمع و البطش بتوجيه نيران بنادقها إلى مجموعات التلاميذ و طلبة الجامعات ، و ممن التحق بهم ، و قد اجتمعوا في جامعة طهران لأعلان معارضتهم للنظام الدكتاتوري المجرم ، و الدفاع عن الإسلام و النهضة و قائدها الإمام الخميني (قده) ، حيث أُستشهد 54 إنسانا بريئا ، نذروا أنفسهم للاسلام المحمدي الأصيل ، و أُريقت دماؤهم الزكية ، الطاهرة ، على مذبح التحرر و الانعتاق من العبودية . كان ذلك قُبيل انتصار الثورة الإسلامية المظفرة ، و بايعاز من حكومة جعفر شريف امامي ، التي شكّلها الشاه ، لتفادي الاوضاع السياسية المتدهورة ، آنذاك ، و لذر الرماد في العيون ، و تبرير حكومته الاستبدادية . (2) . تشير عقارب ساعة التاريخ إلى ذلك : يوم السبت 4 تشرين الثاني 1978 . و قد وجه الإمام (قده) بالمناسبة المذكورة ، نداءً إلى التلاميذ ، قال فيه : " أعزّائي ، اصبروا ، فالنصر النهائي قريب و أن الله مع الصابرين ... ارفعوا رؤوسهم و رؤوس أبناء الجيل القادم عاليا ، إذ أن إيران اليوم اضحت بؤرة للاحرار ، و لا تسمحوا للخوف و الوهن أن ينفذ إلى صفوفكم ، و لن ينفذ ، و لا تصغوا للوساوس الشيطانية لأعوان الجهاز الغاشم ... انكم ايها الشعب الإيراني ، و كذا بطولاتكم و تضحياتكم ، باتت على لسان شعوب العالم و قدوة الاحرار ... انني ، من على البعد ، أرصد بطولاتكم بكل أمل ، و أضع في خدمتكم بحق كل ما أقدر عليه ، و العمل على إيصال صرختكم ، المطالبة بالحرية و الاستقلال ، إلى اسماع العالم ." (3) .
في خضم وقائع الثورة الإسلامية المباركة ، و بُعيد انتصارها ، قامت مجموعة من طلبة الجامعات تطلق على نفسها ، السائرون على خط الإمام، بالسيطرة على السفارة الأمريكية في طهران ، في الحدث الثالث ، للثالث عشر من آبان ، و ذلك يوم الأحد 4 تشرين الثاتي 1979 ، و قد أُطلق على هذا الحدث التاريخي ، يوم مقارعة الاستكبار العالمي ، و ذلك لأن السفارة المذكورة ، و بعد السيطرة عليها من قبل الطلبة ، أصبحت رمزا لهزيمة الاستكبار العالمي ، المتمثل بالشيطان الأكبر ، أمريكا ، و لا يخفى على الاذهان ، ماذا تعني هذه التسمية . فقد وجد الطلبة ما يكفي من وثائق التجسس ، ليس على إيران فحسب ، بل و على دول أخرى ، ما يعني ، ان ما يُسمّى ب (السفارة الامريكية) ، هو في الحقيقة و الواقع ، وكر كبير للجاسوسية و الموآمرات ضد شعوب المنطقة كافة ، لاسيما إيران . لقد " شكلت عملية الاقتحام أكبر أزمة واجهتها إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر (1977_ 1981) ، و فشلت محاولات إدارة كارتر للتفاوض مع الإيرانيين لأطلاق سراح الرهائن ، ما جعل الولايات المتحدة تخاطر و تقدم على عملية عسكرية لانقاذهم في 24 أبريل 1980 ، و لكنها باءت بالفشل و أدّت إلى تدمير طائرتين و مقتل 8 جنود امريكيين و إيراني مدني واحد " (4) . ان اليوم المذكور ، يوم السيطرة على وكر التجسس ، هو بحق إفشاء ماهية الاستكبار العالمي و الامبريالية العالمية . قال الإمام الخميني (قده) موضحا مفهوم الاستكبار : " ان (المستكبرين) لا ينحصرون بالسلاطين . لاينحصرون برؤساء الدول .لا ينحصرون بالحكومة الظالمة ، بل ، للمستكبرين معنى أعم من ذلك ، و أحد مصاديقه هم الأجانب ، حيث يستضعفون الشعوب ويتعدون عليها و يظلمونها . و من مصاديقه أيضا ، هو ، الحكومات الجائرة ، و الملوك الظلمة الذين يستضعفون شعوبهم و يظلمونها ... كل فرد يمكن أن يكون مستكبرا ، و يمكن أن يكون مستصعفا . فإذا تعديتُ على الذين تحت يديّ ، حتى و لو كانوا بضعة أشخاص ، و ظلمتهم و استصغرتهم ، استصغرتُ عباد الله ، اكون مستكبرا ، و يكونون مستضعفين ، و أكون مشمولا للمعنى الذي يتضمنه المستكبرون و المستضعفون . انكم اذا استضعفتم الذين تحت سلطتكم و تعديتم عليهم ، لا سمح الله ، و ظلمتموهم ، تصبحون مستكبرين ، أيضا ، و يكون الذين تحت سلطتكم مستصعفين . " (5) . و فيما يتعلق بكارتر ، الرئيس الأمريكي ، في تلك الفترة ، قال سماحته (قده) : " ان كارتر و جلاوزته هم جزء صغير من هذا العالم ، لكن اتباعهم في أنحاء العالم ، يعتقدون ان هؤلاء يشكلون العالم بأسره ! " (6) .
________________________________
1_ 11، التغابن .
2 _ مرکز التحقيق في الوثائق التاريخية ، ف .
3 _ صحيفة الإمام العربية ، ج4 ، ص 212 .
4 _ مجلة اليوم السابع ، 31/10/2025 .
5 _ صحيفة الإمام العربية ، ج7 ، ص 350 .
6 _ المصدر السابق ، ج11، ص 82 _ 83 .
__________________________________
د . سيد حمود خواسته ، القسم العربي ، الشؤون الدولية .